بحوث و مقالاتمصادر في حقوق الانسان

النسوية في العراق: بين فرض نهج المنظمات غير الحكومية والعنف الطائفي والنضال من أجل دولة مدنية

زهراء علي* (جامعة روتجرز- نيوارك)

ملخص :

يسعى هذا البحث لأستكشاف النشاط السياسي للنساء العراقيات منذ عام 2003 ، اعتمادا على الدراسة الاثنوغرافية المعمقة  للمنظمات السياسية النسائية التي جرت في بغداد على نحو رئيس اضافة الى اربيل والسليمانية  والنجف والكوفة وكربلاء والناصرية ، فأولا يستكشف البحث بعض الجوانب التي تميز سياق ما بعد عام 2003 وتأثيرها الملموس في حياة النساء ونشاطهن ، وبعد ذلك ينظر في مفهوم فرض نهج المنظمات غير الحكومية NGO_ization  بصورة محددة ،وفي علاقته بالنشاط من اجل حقوق النساء في العراق منذ عام 2003، واخيرا يعرض مختلف الاشكال التي اتخذتها الحركة السياسية للنساء بدءاً بالمنظمات غير الحكومية وصولا الى المشاركة في حركة الاحتجاج الاخيرة التي انطلقت في صيف عام 2015 .

كلمات افتتاحية :
نساء العراق ، الاحتلال الاميركي للعراق ، المحاصصة الطائفية ، النسوية حركة الاحتجاج

مقدمة :

يتّسم النشاط السياسي للنساء والحركات النسوية في العراق بتاريخ طويل وغني تشابك إلى حد كبير وتطوّر الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للعراق. ولقد ساهمت تجارب متنوعة شمّلت القومية وطبيعة الأنظمة السياسية المختلفة وتوافر الحركات الاجتماعية، من اليساريين والقوميين إلى الإسلاميين في تشكيل النشاط السياسي النسائي العراقي المعاصر (Al-Ali, 2007, Ali, 2013, 2014, 2017; Ismael and Ismael, 2000; Farouk-Sluglett,1993). وعاشت البلاد، منذ ثمانينيات القرن الماضي، حالة حرب مستمرة، وعانت من عَقْد من العقوبات الاقتصادية القاسية التي أثرت تأثيرًا عميقًا في واقعها الاجتماعي والاقتصادي. وأدى الغزو الذي قادته الولايات المتحدة واحتلالها للبلاد في عام 2003 إلى تفاقم التمزّق الذي كان قد أصاب النسيج الاجتماعي للمجتمع العراقي نتيجة الاستبداد والحروب والعقوبات الاقتصادية للأمم المتحدة. ومنذ ذلك الحين، اتسمت الحياة اليومية للعراقيين بالعنف المسلح وصراع الهويات. وقد دفعت النساء ثمنًا باهظًا للغاية في هذا السياق إذ أثّر تطبيعُ العنف المسلح وعسكرة الفضاءات العامة في واقعهن اليومي (Ali, 2018).

يتناول هذا البحث المعمّق السياق العراقي ما بعد عام 2003 (2018Ali, ) ويبيّن أن السياسة ذاتها التي مارستها سلطة الائتلاف المؤقتة بقيادة الإدارة الأميركية التي حكمت البلاد خلال المراحل الأولى من الغزو ولّدت حالة من الفوضى المدمّرة وأدّت إلى تفشّي العنف، ولا يزال العراق يعاني منها حتى اليوم. ويبيّن هذا البحث أيضًا أنه منذ عام 2003 قوّضت النخبة السياسية الجديدة المحافظة والمذهبية-الإثنية (2017Ali, ) أساس الحقوق القانونية للمرأة العراقية وإرثها المشهود له في النشاط السياسي. وكشف غزو تنظيم الدولة الإسلامية لأجزاء من شمال وغرب العراق التشظي السياسي والاجتماعي الذي يميزّ سياق ما بعد الغزو الأميركي.

* أستاذة مساعدة في علم الاجتماع، جامعة روتجرز نيوارك ، ولاية نيوجيرسي ، الولايات المتحدة الامريكية 

 

وقد ساهمت خصوصيات سياق ما بعد عام 2003 في ظهور المنظمات النسائية الاجتماعية والسياسية وعودة ظهور مجموعات نسائية حظرتْ عقب سقوط نظام البعث الاستبدادي. يسعى هذا البحث إلى استكشاف النشاط السياسي للنساء العراقيات منذ عام 2003 بالاعتماد على الدراسة الإثنوغرافية المعمّقة للمنظمات السياسية النسائية التي جرت في بغداد بشكل رئيس، إضافة إلى أربيل والسليمانية والنجف والكوفة وكربلاء والناصرية.[1] ففي البداية، يستكشفُ البحث بعض الجوانب التي تميّز سياق ما بعد عام 2003 وتأثيرها الملموس في حياة النساء ونشاطهن. وبعد ذلك، ينظر في مفهوم فرض نهج المنظمات غير الحكومية (NGOization) بصورة محدّدة، وفي علاقته بالنشاط من أجل حقوق النساء في العراق منذ عام 2003. وأخيرًا، يعرض مختلف الأشكال التي اتخذتها الحركة السياسية للنساء بدءًا بالمنظمات غير الحكومية وصولًا إلى المشاركة في حركة الاحتجاج الأخيرة التي انطلقت في صيف 2015.

[1] جرى تنفيذ البحث المعمّق هذا ضمن مجموعات وشبكات نسائية، في بغداد بشكل رئيس، وفي أربيل 
والسليمانية (كردستان العراق) بصورة ثانوية بين تشرين الأول/أكتوبر 2010 وحزيران/يونيو 2012، 
وكذلك في بغداد والنجف-الكوفة في آذار/ مارس ونيسان/ ابريل 2016، وفي بغداد والنجف-الكوفة وكربلاء 
والناصرية في أيار/مايو 2017.

 

العيش والحراك في بلد محتل ومشظّى

أدى غزو العراق الذي رافقه القصف والمعارك في الفترة ما بين مارس/آذار ومايو/أيار 2003 إلى مقتل نحو 150,000 مدني.[2] وبعد تكريس الاحتلال عبر سلطة الائتلاف المؤقتة وإنشاء مجالس حكم عراقية قوامها الحصص الفئوية، بدأ العنف يسم الحياة اليومية للعراقيين. كانت الحرب الأهلية المذهبية التي ظلت تطارد البلاد هي النتيجة المباشرة لحملة اجتثاث حزب البعث التي أطلقتها سلطة الإئتلاف المؤقتة وطردت بموجبها 400 ألف جندي عراقي وأعضاء من حزب البعث، ما قوّض الدولة وأدّى إلى التهميش السياسي للسكان السُنة ورسّخ الهويات الاثنية والدينية والمذهبية أساسًا للنظام السياسي العراقي (Ismael Y. and Ismael S., 2015; Arato, 2009; Dodge 2005, 2013). أما قمعُ الجيش الأميركي للانتفاضات ضد الاحتلال – ولا سيما في الفلوجة والنجف – وصعودُ الميليشيات السياسية الحزبية التي استفادت من فراغ السلطة فقد اتخذا هما أيضًا شكلًا مذهبيًا. وبلغ تفاقم الصراع الطائفي ذروته إبان الحرب الطائفية في الفترة 2006-2007.[3] وشكلت هذه الحرب وجميع الحوادث المرتبطة بها نقطة التحول الثانية بعد عام 1991 في العلاقات المذهبية العراقية وإعادة تنظيم المجتمع والمناطق بحسب خطوط مذهبية (Haddad, 2014, 2010)

 

[2] التقديرات وفقًا لـ

Lancet (2004),
 Iraq Body Count: www.iraqbodycount.org, (last accessed February 3 2017) and Iraq: the Human Cost:
 http://web.mit.edu/ humancostiraq/ (last access February 3 2017)
[3] بين 2006 و2007، أوقعت الحرب الأهلية المذهبية نحو 1,000 قتيل أسبوعيًا، أغلبيتهم من المدنيين، 
وتسببت بالنزوح الداخلي والتشرّد الخارجي لنحو 2,500,000 من السكان، 
وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

 

وبدا هذا التصدع واضحًا في تقسيم بغداد إلى أحياء متجانسة سنية وشيعية تفصل بينها نقاط تفتيش وجدران خرسانية (Damluji, 2010; Pieri, 2014).

كان نظام البعث قد بدأ إبان التسعينيات في إعادة الطابع القبلي الاجتماعي والبعد المذهبي المرتبط به، وهو ما تفاقم أكثر في خضم الفوضى التي أعقبت الغزو. وكما يوضح هذا البحث وأبحاث أخرى، يرتبط العنف المذهبي بنوع الجنس (Al-Ali and Pratt, 2009; Ali, 2018; Ismael J. & Ismael S., 2007). فأغلبية الناشطات اللواتي جرت مقابلتهم، خصوصًا من الشخصيات المعروفة والإعلامية، كنّ قد تلقين تهديدات بالقتل أو تعرضن للاستهداف المباشر بأعمال العنف، بما في ذلك هجمات بسيارات مفخخة أمام مكاتبهن أو منازلهن. واضطرت بعضهنّ إلى الفرار من البلد، لكن غالبيتهن بقين في بغداد. وانتقل بعضهن إلى المناطق التي تسيطر عليها الطائفة التي ينتمين إليها. فقد روتْ ابتهال أ.، وهي في أوائل الأربعينيات من عمرها، وناشطة فاعلة في مجال حقوق المرأة ضمن رابطة المرأة العرقية، كيف وضعت مجموعة من الرجال، متفجّرات أمام منزلها وفجّروها في محاولة لقتلها في عام 2007. وقع هذا الحادث بعد أن تلقت عبر مكالمات هاتفية ورسائل نصية عدة تهديدات بالقتل من جماعات مسلحة إسلامية متطرفة . من حسن الحظ، لم يكن أحد في المنزل في ذلك الوقت. وذكرت ابتهال في روايتها عدم كفاءة جهاز الشرطة وعدم توافر الإرادة لديه لمساعدتها في العثور على مرتكبي الهجوم وتأمين الحماية لها. وقد وصفتْ الأجواء المخيّمة على بغداد في 2006-2007 ومشاعرها نحو ذلك:

كانت شوارع بغداد في عامي 2006 و2007 تخلو من المارة بعد الساعة الثانية ظهرًا ولا يبقى أثر للحياة. وفي اليوم التالي، تُفتتح الأعمال في الساعة الثامنة صباحاً. ولكن الناس كانوا يخشون الخروج مبكراً جداً أو متأخراً بعد الساعة الثانية الظهر. ساد العنف في كل مكان. كان كل شيء مرعبًا ومخيفًا، الجماعات المسلحة والتهديدات بالقتل والميليشيات والواقع اليومي. وحتى اليوم لا قيمة لحياة الإنسان في العراق. فأي خلاف بين القادة السياسيين ينتهي إلى عنف في الشوارع. نحن نواجه الموت كل يوم، وأيّ عراقي يخرج من بيته لا يكون متأكدًا من أنه سيعود حيًا. لقد تحول العراق إلى ساحة للموت. وحتى عندما نحظى بلحظات من الفرح نشعر أننا نسرق هذه اللحظات، فنحجم عنها قائلين “الله يسترنا.” وأسوأ ما في الأمر أنه لم يكن لدينا دولة؛ أو حكومة يمكن أن نطلب منها الحماية أو نشكو لها.[4]

ط[4] أجريت المقابلة في بغداد، 2011.

 

سيطر الجنود الأجانب على العديد من الأحياء، وخاصة جنود الجيش الأميركي وذلك حتى عام 2011، ما شكّل عائقًا كبيرًا أمام النساء اللواتي يرغبن بالتجوّل بحرية بعيدًا عن تحديقات رجال مسلحين أجانب. وبالإضافة إلى انعدام الأمن العام الذي أدى إلى موت العديد من الناشطات العراقيات، لاحظتْ أغلبية النساء اللواتي أجريتْ مقابلات معهن كيف أثّر بروز المعايير المحافظة المتعلّقة بالجندر في طريقة ارتداء ملابسهن وفي قدرتهن على التنقل بحرية في أحياء معيّنة من بغداد. واليوم، تخضع العديد من المناطق في البلاد والعاصمة لسيطرة الميليشيات والجماعات المسلحة المدعومة من الأحزاب الإسلامية المذهبية المحافظة. وقد واجه عدد كبير من النساء مشاكل تتعلق بالملابس أو السلوك عند عبور نقاط التفتيش، أو تعرّضن لحوادث مرتبطة بذلك. في حين تفضّل الناشطات المسيحيات أيضًا ارتداء شال فضفاض فوق رؤوسهن لدى التنقل بين مختلف أحياء العاصمة. تتشابك المعايير الجندرية مع الانقسام المذهبي: ففي المدن التي تسود فيها الأغلبية السنية، غالبًا ما ترتدي النساء جبّة تتكوّن من حجاب وعباءة طويلة، بينما في المدن التي تنعم بأغلبية شيعية، وخاصة في جنوب العراق، ترتدي النساء حاليًا عباءة سوداء[5] فوق حجابهن ويغطين أقدامهن بجوارب سوداء. وقد وصفت العديد من النساء اللواتي جرت مقابلتهن حوادث مثل إغلاق صالونات تصفيف الشعر أو هجمات بسيارات مفخّخة لمنع النساء من قيادة السيارات. وبشكل عام، طغى شعور بالتوتر بسبب العنف وهيمنة الميليشيات المسلحة المتنافسة على الشوارع. وقد جرى التعبير عن هذا الشعور مرارًا وتكرارًا: “من قبل، كان لدينا صدّام واحد، أما اليوم فهناك صدّام في كل زاوية شارع.”

[5] قماش أسود طويل وواسع يغطي كامل الجسم ما عدا الوجه.

 

يُضاف إلى ما سبق أنّ هذا البحث الإثنوغرافي بيّن أن عسكرة الفضاءات العامة العراقية حوّلت بغداد إلى “مدينة للرجال”: نقاط التفتيش والجدران والجنود في كل مكان من الشوارع. هناك العديد من الأماكن التي يتعذّر على النساء ولوجها حاليًا. وباتت بعض الأماكن مثل المقاهي، التي كانت مفخرة ضفة النهر في بغداد، تقتصر على الرجال بعد الخامسة مساء. وفي عام 2007، كان أكثر من نصف سكان العراق يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم. وتفاقمت نسبة سوء التغذية الحاد منذ عام 2003 ما ترك آثاره على ما لا يقل عن 43 في المائة من جميع الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ستة أشهر وخمس سنوات. وحُرم ما يقارب من 50 في المئة من الأسر من المرافق الصحية السليمة. ويعاني العراق من نقص حاد في الأدوية والمعدات الطبية، وقد جرى قتل أكثر من 15,000 طبيب أو خطفوا أو فرّوا من البلاد. وحتى في بغداد، توفّر الدولة خمس ساعات من الكهرباء يوميًا كحد أقصى (Dawisha, 2009). وبالإضافة إلى ذلك، أدّى انعدام السيطرة والاستقرار منذ عام 2003، ناهيك عن خصخصة الاقتصاد وتحريره، إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع الغذائية والاحتياجات الأساسية. ونتيجة لذلك، فإن غالبية العراقيين فقراء في حين أنهم يعيشون في بلد غني بالنفط. لم ينفذ النظام الجديد أي خطط أو سياسات مهمة للتعامل مع هذه القضايا. وقد دفع ضعف الدولة الجديدة وعجزها عن توفير الأمن والاستجابة للاحتياجات الأساسية مثل الوصول إلى المياه الجارية، والكهرباء، والإسكان، والتوظيف، وسوء الإدارة، والفساد العراقيين إلى الاعتماد على مصادر بديلة للحماية والخدمات.

بلغ الوضع حدًّا من الفوضى والتشظي جعل حتى البرلمانيّات يواجهن تحدّيات كبيرة تجعل عملهن على الأرض مستحيلًا تقريبًا. تعتقد بتول م.، وهي ناشطة إسلامية شيعية بارزة، أن نظام الحصص الإثني-المذهبي هو أساس الاختلال في الدولة والحكومة. كانت بتول عضوًا منتخبًا في مجلس محافظة بغداد ممثّلة عن تيار الإصلاح، وهي الجماعة السياسية الشيعية التي أسّسها إبراهيم الجعفري، وقد واجهت صعوبات كبيرة:

نحن نواجه مشكلات كثيرة في مجلس محافظة بغداد. وفي الواقع، تكمن المشكلة الأكبر، في نظام المحاصصة. […] تعيّن عليّ النضال من أجل الحصول على عضوية في لجنة منظمات المجتمع المدني، ذلك أنني شعرت بأنه ينبغي لي بصفتي ناشطة في المجتمع المدني أن أكون عضوًا في هذه اللجنة. ولكن بمجرد أن انضممت إلى هذه اللجنة واجهت الكثير من النزاعات مع رئيسها. فما إن أصبح هذا الرجل رئيس لجنة حتى ظن أنه صار ملك بغداد. نحن ممثلون منتخبون. لديه منصبه ولدي منصبي. اقترحتُ عليه أن يقسّم بغداد إلى مناطق مختلفة لكي ننجز العمل بكفاءة أكبر. اختار المناطق التي أراد العمل فيها، ورفض العمل في مناطق معيّنة. ولنكن صريحين هنا، المشكلة مذهبية. قال لي: “أنتم تتولّون العمل في أحياء الصدر والكاظمية والاستقلال والكرادة وغيرها من المناطق [جميع المناطق الشيعية]، وأنا أعمل في أبو غريب والطارمية والميادين والأعظمية وغيرها [جميع المناطق السنية]. وافقت في نهاية المطاف لأنني لا أستطيع الذهاب إلى هذه الأماكن مع بطاقة هويتي وعباءتي التي هي كما تعلمين العلامة الأكثر وضوحًا والتي تشير إلى مذهبي. ففي ذلك الوقت، بعد عام 2005، كان الأمر خطيرًا. ولكن حتى في هذه الأيام لا أعرف هذه المناطق أو أشعر بالأمان في الذهاب إلى هناك. وعلى أي حال، لا أستطيع دخول هذه المناطق. […] قبل سقوط الحكم، ألم نكن نعيش جميعًا معًا، سنة وشيعة، ألم نكن جميعًا جيرانًا؟ […] أما اليوم فبات من الأسهل العمل وطلب التمويل من المنظمات غير الحكومية بدلاً من الحكومة. إذا كنت أرغب في توفير الخدمات الأساسية في أحد الأحياء، من الأسهل بالنسبة لي طلب التمويل من منظمة غير حكومية أكثر من الحكومة؛ لأن الفساد في الإجراءات والمراقبة الإدارية يجعل من المستحيل الحصول على أي شيء قبل مرور سنوات. سيكون الأمر معقدًا ويستغرق زمنًا طويلًا، في حين تكون الحاجة ماسة إلى إصلاح بعض المشكلات الملحة جدًا. هذا نهجٌ عملي. فلدينا قضايا طارئة كثيرة: الماء والكهرباء والاحتياجات الأساسية. ولا نستطيع الانتظار طويلًا حتى تقوم الحكومة ببناء المساكن الاجتماعية، بل يتعين علينا إيجاد حلول ملموسة.[6]

[6] أجريت المقابلة في بغداد، 2010.

 

فرض نهج المنظمات غير الحكومية والنشاط السياسي للنساء

طرحت باحثة علم الاجتماع ماكسين مولينو (Maxine Molyneux) مفهوم المصالح العملية الجندرية (practical gender interests) في سياق دراستها لنشاط النساء في أميركا اللاتينية، ولا سيما في نيكاراغوا. ومن المفيد جدًا استكشاف هذا المفهوم في السياق العراقي. إذ بيّنت مولينو من خلال هذا المفهوم أن النساء دخلن الحيّز العام من موقع اجتماعي متميزّ عن موقع الرجال؛ موقع وجّهه التقسيم الجنسي للعمل. وتنشأ المصالح العملية الجندرية من الشروط الملموسة لتحديد موقع المرأة ضمن تقسيم العمل على أساس الجنس، وهي تمثل استجابة لحاجة ملموسة فورية. وعادة، لا ينطوي مفهوم المصالح العملية للجنسين على هدف استراتيجي، مثل تحرّر المرأة أو المساواة بين الجنسين. فبدلًا من ذلك، “يشير البعض إلى أن النساء، بحكم موقعهن ضمن التقسيم الجنسي للعمل بوصفهن المسؤولات الأساسيات عن الرفاه اليومي لأسرهن، لديهن مصلحة خاصة في شؤون التدبير المنزلي والرفاه العام” (Molyneux, 1985). ولذلك، عندما تتقاعس الحكومات عن توفير هذه الاحتياجات الأساسية وتتعرّض سبل عيش أسرهن للتهديد، يثرن النساء الشغب ويتظاهرن ويشتكين. فمن المهم استكشاف هذا المفهوم في سياق العراق ما بعد عام 2003 الذي تميز بأزمة سياسية واقتصادية واجتماعية، إضافة إلى حالة عامة من العنف الطائفي.

في الشرق الأوسط، ومنذ التسعينيات، أصبح الترويج لمصطلحات ك “المجتمع المدني” و “منظور المساواة بين الجنسين” كلمات طنانة لدى صانعي السياسات الدوليين والعابرين للحدود الوطنية، فقد بات الترويج للـ “المجتمع المدني” و “تمكين النساء” من الملامح الرئيسية لما يسمى “بإرساء الديمقراطية” في الشرق الأوسط، وتتبنّاها كل من مؤسسات الأمم المتحدة، مثل هيئة الأمم المتحدة للمرأة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلى الإدارة الأميركية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي (Greenberg & Zuckerman, 2006; Metcalfe, 2008; Norton, 1993; Rehn & Johnson Sirleaf, 2002; UNDP, 2001). وكما تشير جاد (2007)، فإنه لا بد من النظر إلى العدد المتنامي للمنظمات العربية غير الحكومية بشكل عام، والمنظمات االنسائية العربية غير الحكومية بشكل خاص في سياق اتجاه أوسع للتنمية يرى في المنظمات غير الحكومية أدوات حيوية من أجل التغيير الاجتماعي وإرساء الديمقراطية في المنطقة. وبالتالي، فإن أغلبية المنظمات غير الحكومية تعمل على تعزيز التمكين الاقتصادي القائم على التمويل النيوليبرالي وسياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ويؤكد دروز-فينسنت (Droz-Vincent) (2008) أنه في ظل الأنظمة غير الديمقراطية، أصبح أيضًا نشاط المجتمع المدني في الشرق الأوسط نشاطًا مهمًّا لتوليد الدخل للشباب المتعلّمين الذين يبحثون عن حيّز لتحقيق رؤيتهم لحقوق الإنسان والديمقراطية ضمن الفضاءات التربوية-الاجتماعية للطبقة اللوسطى، لا الفضاءات السياسية المباشرة.

وبصفة أعمّ، لاحظت كانديوتي (2007) (Kandiyoti) تحوّلاً لافتًا طرأ على أسلوب طرح قضايا المساواة بين الجنسين في سياقات “ما بعد النزاع.” ففي البلدان التي تنعم بأغلبية مسلمة، يجري النظر إلى قضايا حقوق النساء بصفتها جزء لا يتجزأ من التماسك الوطني والتنمية الوطنية في إطار عملية بناء الدولة ما بعد مرحلة الاستعمار، وقد دار سجال سياسي بشأن قضايا حقوق النساء ضمن “المجتمعات المحلية” في المقام الأول وذلك ضد تأثير القوى الاستعمارية الغربية السابقة. أمّا في أوضاع “ما بعد النزاع،” فقد لاحظ كانديوتي تدويلًا لعملية بناء الدولة في ظل أشكال جديدة من الوصاية. واقترح صانعو السياسات الدوليون ومؤسساتهم التي تقودها الجهات المانحة مجموعة من الخطوات لبناء دولة جديدة، مثل صوغ دستور جديد وتنظيم انتخابات عامة مع تكريس حصص لممثلات عن النساء. وفيما يتعلق بالعراق، تساءل بركات (2005) بوضوح عن سياسة “إعادة البناء” هذه في ظل الأوضاع التي أدى فيها التدخل العسكري الأجنبي إلى نشوب حالة من الفوضى وتدمير دولة فاعلة وفرض “مواطنية مسبقة الصنع” بعد الإطاحة بالنظام. إذ تؤثر حالة الفوضى وضعف النظام الذي أمسك بزمام السلطة بواسطة التدخل العسكري الأجنبي، في حقوق الإنسان الأساسية وفي السياق الملموس الذي يمكن من خلاله تعميم النشاط الاجتماعي للمجتمع الأهلي. وقد أُجريت تحليلات مماثلة عن الأوضاع في أفغانستان والعراق، إذ أن مفهوم المواطنية يتعرّض للتشكيك عندما يتسم المجتمع المدني بالعنف الطائفي، وصعود القوى المحافظة والمتشددة، والإفقار العام (Barakat & Wardell, 2002; Kamp, 2009; Kandiyoti, 2007; Khattak, 2002).

لا شك أن استثمار الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية في قضايا النساء كان مهمًا في الشرق الأوسط منذ انعقاد مؤتمر بكين العالمي في عام 1995، واعتماد اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، وقرار مجلس الأمن رقم 1325 بشأن المرأة والسلام والأمن الذي اعتمد في تشرين الأول / أكتوبر 2000. وقد أشارت جاد (2003) إلى ما أسمته “فرض نهج المنظمات غير الحكومية” على نشاط النساء في فلسطين والعديد من البلدان العربية؛ وحلّل بحث آخر هذه الظاهرة في الأردن (Latte Abdallah, 2009; Pietrobelli, 2013) ومصر (Abdelrahman, 2007). ووفقًا لجاد وغيرها من الباحثين العاملين في فلسطين، اتسمت فترة ما بعد أوسلو بتضاعف عدد المنظمات غير الحكومية االتي تموّلها الأمم المتحدة والجهات المانحة الدولية والأوروبية، ما غيّر بشكل ملحوظ شكل نشاط المرأة على الأرض (Abdel Hadi, 1998; Hasso, 1998; Jad, 2003, 2007; Richter-Devroe, 2008, 2009). ووفقًا لهذه الدراسات أدى هذا الشكل الجديد من العمل أيضًا، إلى نهج عدم التسييس واعتماد مقاربة تركّز على المسيرة المهنية فيما يخص حقوق النساء، إذ تبنت مجموعة جديدة من نخبة النساء المهنيات المتخصّصات “منطق المشروعات الصغيرة” وانجذبن إلى صناعة التمويل والمشروعات التي تتناول قضايا متعلقة بالديمقراطية وبناء السلام وحقوق النساء. ووفقًا لجاد (2003، 2007)، كان للبرنامج القائم على أساس الحقوق والذي تبنّته المنظمات غير الحكومية النسائية تأثير سلبي على إمكانات التعبئة والحشد التي تتمتع بهاالمنظمات النسائية الجماهيرية، وأدت إلى توفير مساحة للمجموعات اليمينية والمحافظة للظهور كقوى متنفّذة في المجتمع المدني الفلسطيني. وعلاوة على ذلك، رأت جاد وريختر-ديفروي (2009) وهاسو (1998) (Hasso)بأن المنظمات غير الحكومية عزّزت النشاط غير المسيّس، وهو نشاط لا يتناول جوهر القضية الفلسطينية الأساسية المتمثلة بالاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي، ينظر إليه أغلبية السكان على أنه غير مهم، وبالتالي يتجهون نحو المجموعات الإسلامية. إن مفهوم فرض نهج المنظمات الحكومية الذي بلوره هؤلاء الباحثون ضروري للغاية من أجل استكشاف السياق العراقي ما بعد عام 2003 الذي أشكلته إدارة الاحتلال الأميركي ومشاركة وكالات الأمم المتحدة وبرامجها.

التعامل مع التمويل وإدارة الاحتلال والنظام الجديد

كما بيّنت  العلي وبرات (2009)، ركّزت الإدارة الأميركية بشكل خاص على قضايا المرأة في تبريرها المنمّق للغزو، وفي خطابها السياسي الذي يبرّر الاحتلال. وقد أنشأت سلطة الائتلاف المؤقتة مكتبًا لشؤون المرأة، إذ رأت في النساء رأس الحربة في مشروع “جلب الديمقراطية” إلى البلد. وبعد حل سلطة التحالف المؤقتة في حزيران/يونيو 2004، جرى إنشاء مكتب المفتش العام الخاص لشؤون إعادة إعمار العراق[7] المرتبط بحكومة الولايات المتحدة وجرى تكريس ما يعرف بـ “إعادة إعمار العراق.” وعمل مكتب المفتش العام، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، والمعهد الأميركي للسلام، والصندوق الوطني للديمقراطية، والمعهد الجمهوري الدولي، ووزارة التنمية الدولية البريطانية، جنبًا إلى جنب مع غيرهم من المنظمات الأميركية والبريطانية والأوروبية على تمويل برامج تمكين المرأة والديمقراطية وبناء السلام في العراق. وقد غطّت عدة صناديق مخصّصة للمنظمات النسائية العراقية برامج للتدريب على الديمقراطية، تركّز على المشاركة في الانتخابات وتدريبات لتمكين المرأة في مجال القيادة السياسية والريادة في المشاريع الاقتصادية. وقد ردّدت هذه الجهات المانحة كلّها، إلى جانب التوظيف الكبير لبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق، وهيئة الأمم المتحدة للمرأة (صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة سابقًا)، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية والمنظمات غير الحكومية الدولية مثل الصندوق العالمي للمرأة، ومنظمة أوكسفام البريطانية والمنظمات غير الحكومية الأوروبية الأخرى، بطريقةٍ ما المبررَ الذي ساقته الولايات المتحدة لغزو العراق عبر ذريعة “الديمقراطية” و “تمكين النساء”.

[7] جرى تخصيص ميزانية مقدارها 52 مليار دولار لعملية إعادة الإعمار.

 

وبالنسبة إلى التمويل المتوافر (التمويل الدولي وتمويل الأمم المتحدة والتمويل الأميركي والأوروبي والعربي) وطرق التعامل مع إدارة الاحتلال والنخبة السياسية الجديدة، تبنت ناشطات حقوق النساء استراتيجيات تتسم بالبراغماتية. لم يرفض التمويل الأميركي المباشر سوى عدد قليل جدًا من الناس والمنظمات؛ فأخذت الأغلبية “ما يمكن الحصول عليه” من أجل تمويل مكاتبهم وأنشطتهم ومشاريعهم. انتقد بعض الناشطين مصادر التمويل والشراكات مع المنظمات غير الحكومية الأميركية والأوروبية والدولية، حتى عندما عارضوا الاحتلال. تستند المواقف المختلفة بشأن هذه المسألة إلى فكرة بناء حقبة جديدة والمساومة على حيّز داخلها. وكثيرًا ما قيل أثناء إجراء المقابلات إن رفض المال لا معنى له في وضع “يمسك فيه الأميركيون بكل شيء”. ورأى العديد من أولئك الذين كانوا الأكثر انتقادًا للغزو والاحتلال الاميركي ، بأنّ “التعامل مع” لا يعني “التعاون مع.”

أما المنظمات الأكثر انتقادًا للغزوالاحتلال فكانت منظمة حرية المرأة في العراق، وهيئة إرادة المرأة (برئاسة هناء إبراهيم)، وجمعية الأمل (برئاسة هناء إدوار)، تتولى ينار محمد رئاسة منظمة حرية المرأة في العراق وهي ناشطة نسوية ويسارية ومعادية للإمبريالية. وقد تكون منظمة حرية المرأة في العراق هي المنظمة الأكثر راديكالية بين المنظمات والمجموعات النسوية. ومن خلال خطابها، في مجلة “المساواة” وبرنامج راديو ” إذاعة المساواة،” تُعدّ هذه المنظمة إحدى منظمات حقوق المرأة الأكثر انتقادًا للنظام الجديد، وبالأخص للإسلاميين المحافظين الذين تبوّأوا السلطة. تقع المكاتب الرئيسية لمنظمة حرية المرأة في العراق وجمعية الأمل في وسط بغداد في منطقة غالبًا ما تستهدفها المليشيات ويهدّدها العنف المذهبي، إذ أن الانفجارات تقع للأسف بالقرب منها بشكل متكرر. وعلى الرغم من هذا الوضع، تمارس منظمة حرية المرأة في العراق نشاطها وتُبقي مكاتبها مفتوحة للزوار والنساء اللواتي تحتاج إلى المساعدة أو الدعم.

إنَّ أعضاء منظمة حرية المرأة في العراق مسيّسون للغاية وينتقدون نظام ما بعد 2003. وخير مثالٍ عنهم هي هدى أ.، شابة في أوائل العشرينيات من عمرها، ناشطة وجريئة جدًا في المنظمة، بالإضافة إلى كونها عضوًا في الحزب الشيوعي العمالي العراقي. كانت مستاءة جدًا من النخبة السياسية التي تمسك بزمام السلطة، وأشارت إلى أن الحكومة لم تكن ترغب في تمويل المنظمة بسبب توجّهها الراديكالي. يستهدف نقدها التحولَّ الديني في الحياة السياسية العراقية: إذ تعتقد هدى أن نفوذ الإسلاميين هي أكبر مشكلة تواجهها البلاد وأهم تحدٍ في وجه حقوق النساء. وعلى غرار أغلبية منظمات حقوق المرأة التي ظهرت في عام 2003، تموَّل المنظماتُ غير الحكومية الدولية وسفارات البلدان الغربية، منظمة حرية المرأة في العراق بشكلٍ رئيس. وتعدّ وجهات النظر التي تعبّر عنها ناشطات منظمة حرية المرأة في العراق وجمعية الأمل هامشية ضمن طيف المجتمع المدني العراقي، حيث قبلت أغلبية المنظمات الاخرى التمويل الأميركي المباشر – مثلًا، من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والمعهد الديمقراطي الوطني[8] ومبادرة الديمقراطية للمرأة العراقية.

[8] أسسه الحزب الديمقراطي ويضع المعهد برامج مهمة تهدف إلى "تعزيز الديمقراطية" في العراق.

 

المجموعات النسائية والأنشطة والتعبئة

المجموعات والشبكات النسائية

بعد اللقاء بـِ 90 من الناشطات في بغداد (بشكل أساس)، وأربيل والسليمانية، والنجف – الكوفة، وكربلاء، والناصرية، وإجراء مقابلات معهن، وهن ينشطن في أكثر من 40 منظمة ومجموعة وشبكة تتعامل مع قضايا المرأة في العراق، يتبيّن أن هذه المجموعات النسائية المتنوعة تندرج ضمن خمس فئات: مجموعات علمانية غير منتمية سياسيًا؛ ومجموعات علمانية حزبية؛ ومجموعات إسلامية؛ ومجموعات إثنية وإثنية-دينية التوجه؛ ونساء النظام الجديد.

1) المجموعات العلمانية غير المنتمية سياسيًا

على الرغم من ضبابية الحدود الفاصلة بين المجتمع المدني وبين الحكومة أو الأحزاب السياسية في العراق ما بعد عام 2003، تشكّلت العديد من المنظمات والمجموعات وشبكات النساء على نحو مستقل عن الأحزاب السياسية أو الجماعات الدينية أو الحكومة الجديدة. وقد يكون لأعضائها المؤسسين انتماء سياسي واضح، لكن لا ترتبط الأنشطة والعضوية بمجموعة أو توجه سياسي أو سياسي ديني محدّد. تستنفد هذه الأنواع من المجموعات جزءًا كبيرًا من نشاط المرأة العراقية والمجتمع المدني؛ وبالفعل، تشكّل شبكاتها ومجموعاتها ما يراه الكثير من الناشطات الحركةَ النسائية العراقية المستقلة. أما أهم شبكة تمثل هذه الفئة فهي شبكة النساء العراقيات. وعلى الرغم من أن بعض أعضائها هن من الناشطات السياسيات المنتميات إلى الأحزاب، لا تنتمي الشبكة نفسها إلى مجموعة سياسية محددة. هناك بعض المنظمات الأخرى التي تندرج ضمن هذه الفئة لكنها لاتقتصر في نشاطها على قضايا المرأة، مثل جمعية الأمل أو منظمة تموز للتنمية الاجتماعية. ونذكر من المنظمات النسائية الأكثر أهمية ونشاطًا في هذه الفئة: منظمة حرية المرأة ، جمعية النساء في بغداد، وتحالف نساء الرافدين، ، ومعهد المرأة القيادية، ومنتدى الإعلاميات العراقيات، ومنظمة تمكين المرأة في أربيل، ومنظمة آسوده (Asuda) ومقرها السليمانية. وتملك أغلبية هذه المنظمات فروعًا في عدة مدن عراقية. وهناك أيضًا مركز عراقيات للدراسات الذي كان نشطًا حتى عام 2010، ونشر مجموعة من الإصدارات والأبحاث التي كتبتها نساء عراقيات باحثات-ناشطات.

2) المجموعات العلمانية الحزبية

تتألف هذه الفئة في أغلبيتها من منظمات نسائية كردية ترتبط بالحزبين الكرديين الرئيسيين: اتحاد نساء كردستان المرتبط بالحزب الديمقراطي الكردستاني (الذي يرأسه مسعود البارزاني) ومقرّه أربيل؛ وزينان -الاتحاد الوطني لنساء كردستان، المرتبط بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني (الذي كان يرأسه جلال طالباني) ومقره في السليمانية. ويمكن أيضًا اعتبار رابطة المرأة العراقية منظمة حزبية، إذ ينتمي أغلبية أعضائها إلى الحزب الشيوعي العراقي أو يميلون إليه. وينطبق الشيء نفسه على رابطة النساء العراقيات في كردستان. ومع ذلك، فإن واقع الأنشطة الحالية وطرائق عمل رابطة المرأة العراقية على أرض الواقع يجعلها قريبة جدًا من أي منظمة مستقلة أخرى للمجتمع المدني.

3) المجموعات الإسلامية

أغلبية المجموعات التي تندرج ضمن هذه الفئة هي مجموعات سياسية-مذهبية ، مثل المجموعات النسائية السنية والشيعية المرتبطة بأحزاب أو حركات سياسية إسلامية. أمّا المجموعات الإسلامية غير الطائفية فهي غير موجودة في العراق بسبب طبيعة النظام السياسي الذي فرض المحاصصة الاثنية ـ الطائفية منذ ٢٠٠٣. تشمل المجموعات في هذه الفئة فروع الأحزاب السياسية المخصّصة للمرأة، باعتبار أن كل حزب إسلامي له فرع ومنظمات تُعنى بشؤون المرأة وتكون مرتبطة بحزب أو حركة. هذه المجموعات مهمة جدًا لجهة أعدادها وأنشطتها ورؤيتها. فمنظمة “حوّاؤنا” (منظمة المرأة المسلمة في العراق) ورابطة المرأة المسلمة في العراق، اللتان تنتميان إلى المجلس الأعلى الإسلامي العراقي وحزب الدعوة على التوالي، ويملكان فروعًا في جنوب البلاد (المنطقة التي تتمتع بأغلبية شيعية). ومن ناحية أخرى، فإن الرابطة الإسلامية لنساء العراق، وهي منظمة إسلامية سنية نسائية، تملك فروعًا رئيسة في غرب البلاد (المنطقة ذات الأغلبية السنية) وهي عضو في المنتدى الإسلامي العالمي للأسرة والمرأة. وبالمثل، توجد في المنطقة الكردية مجموعات نسائية إسلامية كردية مهمة، مثل الرابطة الاسلامية لأخوات كوردستان المرتبطة بالاتحاد الإسلامي الكردستاني. فهذه المنظمات مهتمة بسياق كردستان وتعاملها بالمجموعات الإسلامية النسائية العربية محدود.

4) المجموعات الإثنية والإثنية-الدينية

تضم هذه الفئة مجموعات مثل الاتحاد النسائي الآشوري وجمعية النساء الكلدانيات وجمعية نساء الايزيديات. وتنعم أغلبية هذه المجموعات أيضًا بعضوية في المجموعات والشبكات النسائية العلمانية، مثل تحالف نساء الرافدين أو شبكة النساء العراقيات.فهذه المجموعات مهتمة بالحماية والحفاظ على هواتها الخاصة التي تعتبر مضطهدة كونها اقلية اثنية او دينية.

5) نساء النظام الجديد

تضم هذه الفئة القائدات السياسيات، وأعضاء مجلس النواب الإناث، والنساء اللواتي يشغلن مناصب حكومية، وأعضاء اللجان النسائية الحزبية أو المؤسساتية، مثل مجلس النواب العراقي أو مجالس المحافظات أو البلديات. أنشأ أغلبية هؤلاء النساء منظماتهن الخاصة أو هن أعضاء في المجموعات والشبكات النسائية؛ إنهن الروابط الرئيسة التي تجمع بين الحكومة وبين المجتمع المدني أو المنظمات غير الحكومية. فعند هذه الفئة الناشطات اللواتي يمثلن المعارضة السياسية قليلة و من الجدير بالذكر  ان كثير من نساء مجلس النواب حصلن على مناصبهن عبر الكوتا النسائية وليس من خلال نضالهن النسائي او النسوي.

أنشطة النساء

تنتظم النساء الناشطات سياسيًا إما في المجموعات النسائية أو في المنظمات الاجتماعية والإنسانية، وتغطي مبادراتهن وحملاتهن مجموعة واسعة من الأنشطة جرى تصنيفها في هذا البحث ضمن ثلاث فئات: تعميم الوعي بالديمقراطية وحقوق الإنسان؛ العمل الإنساني والصحي والاجتماعي والتعليمي؛ وتشكيل مجموعات الضغط السياسي وحراك/تعبئة المجتمع المدني.

1) تعميم الوعي بالديمقراطية وحقوق الإنسان

انتشرت على نطاق واسع داخل المجموعات والشبكات النسائية العراقية الأنشطةُ والحملات والمبادرات التي بلورتها صناديق التمويل الأميركية والدولية – مثل مبادرة الديمقراطية للنساء العراقيات التي أطلقها كولن باول في 8 آذار/ مارس 2004. وتعمل الناشطات السياسيات العراقيات أيضًا على مبادرات تهدف إلى تعميم الوعي والتثقيف بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان، بالاستناد إلى مرجعيات من قبيل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، وقرار مجلس الأمن 1325. تشمل هذه المبادرات التدريب على تعميم مراعاة منظور الجندر (او النوع الاجتماعي)، والمهارات الإعلامية والتنظيمية والقيادية. وقد عُقدت اجتماعات ومؤتمرات عديدة في فترة صوغ لدستور العراقي الجديد لشرح العناصر الأساسية للمؤسسات الديمقراطية والانتخابات والحقوق الدستورية. كانت النساء العراقيات في طليعة الحملات التي تشجع المشاركة في كل من الانتخابات والاستفتاء على الدستور الجديد. تكشف هذه الفئة المحددة من النشاطات والإجراءات عن فرض قوي لنهج المنظمات غير الحكومية على النشاط الاجتماعي والسياسي للنساء العراقيات.

 

2) العمل الإنساني والصحي والاجتماعي والتعليمي

تعمل المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني بصفتها بدائل فعلية لمؤسسات الدولة والخدمات الأساسية للمواطنين وتلك المتعلقة بالرفاه والرعاية. وتتنوع هذه الأنشطة للغاية وتغطي أنواعًا مختلفة من الاحتياجات مثل توزيع المخصصات للعائلات الفقيرة والأرامل والمعوقين؛ والمساعدة في السكن والكهرباء والمياه الجارية؛ وافتتاح دور الحضانة ودور الأيتام والعيادات الصحية المجانية؛ ومحو الأمية والخياطة والتدريب على الحاسوب؛ وحملات تثقيفية حول النظافة، وسرطان الثدي، واحتياجات الأمومة، وخدمات المساعدة القانونية للنساء المعنفات. تنفذ أغلبية هذه الأنشطة بالشراكة مع الوزارات المعنية، على الرغم من حقيقة أن أغلبية التمويل هو من المساعدات الدولية. تشمل هذه الفئة أيضًا المبادرات التي تمولها الولايات المتحدة والمنظمات الدولية والشركات الأجنبية الخاصة تحت عنوان “تمكين المرأة”، مثل مشروعات الأعمال الصغيرة والائتمانات الصغيرة.

ويكشف اعتماد المجموعات النسائية هذا على التمويل الدولي، وأغلبيته من تموّله منظمات الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية أخرى، عن أن الحد الفاصل بين مجموعات المجتمع المدني وبين المنظمات السياسية والحكومية، ضبابي للغاية. يُضاف إلى ذلك أن المجموعات المرتبطة بحزب سياسي تحصل على الدعم من شبكاته الخاصة. ينطبق ذلك على نحو خاص على المنظمات الإسلامية أو دينية التوجه التي لديها دعمها المالي الخاص بالإضافة إلى الأموال الدولية. وقد شهدت المنظمات النسائية وتحديدًا بعد عام 2005 منافسة واضحة على التمويل. وتجدر الإشارة إلى أنه خف التمويل والدعم الدوليين بعد الانتخابات العامة العراقية عام 2005 حيث اعتبرت الأمم المتحدة والأطراف الدولية الفاعلة أن المؤسسات العراقية والحكومة العراقية باتت هي المسؤولة عن تلبية احتياجات الشعب. وتنفَّذ أغلبية هذه الأنشطة بالشراكة مع الوزارات المعنية، مثل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ووزارة الهجرة المهجرين.

وبالإضافة إلى الأنشطة التي تنفّذ مع منظمات نسائية أخرى، تشارك المجموعات النسائية الإسلامية أيضًا في طيفٍ متنوّع من الأنشطة التي تغطي تقريبًا جميع جوانب حياة النساء. يوفّر الإسلاميون الشيعة والسنة، كلّ في مناطقه وأحيائه، الخدمات الاجتماعية والثقافية والرعاية ضمن إطار فهمهم للإسلام، ويستخدمون التمويل والدعم من الجماعات والأحزاب الإسلامية التي يرتبطون بها. وإضافة إلى مساعداتهم الإنسانية والصحية والاجتماعية – خاصة الموجّهة إلى الأيتام والأرامل والمسنّين- يقدّم الإسلاميون مجموعة واسعة من الخدمات المجانية: التدريبات الدينية التقليدية (الفقه والقرآن)؛ والتدريب على استخدام الحاسوب والتدريب على الخياطة وتصفيف الشعر؛ وتقديم المشورة في شؤون الزواج، وتوفير مِنح للأزواج الشباب.

 

 

3) تشكيل مجموعات الضغط السياسي وتعبئة صفوف المجتمع المدني

عندما ابتدأ العمل الميداني لهذا البحث في عام 2010، كانت مسألة إنهاء الاحتلال ورحيل القوات الأجنبية توقّفت عن كونها جوهر التحرّكات والتعبئة التي تطلقها النساء في العراق. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2008، صادق مجلس النواب العراقي على اتفاقية الانسحاب التدريجي لقوات التحالف بنهاية عام 2011، وعلى إجراء انتخابات برلمانية تتيح للسنّة الحصول على مزيد من المقاعد. وقد أعطت هذه الاتفاقية السياسية متزامنة مع تنظيم الانتخابات، انطباعًا عامًا يشير إلى استعادة السيادة، ما أفقد التعبئة والحراك ضد القوات الأميركية زخمهما على الرغم من مناخ الاحتجاج الذي ساد في المنطقة العربية في أواخر عام 2010. وقد شاركت بعض الناشطات اللواتي قابلتهن في مظاهرات تحتفل برحيل الجنود في نهاية عام 2010. وعقب ذلك، ركّزت الناشطات حراكهن على الوضع القانوني للمرأة في الدستور وقانون الأحوال الشخصية، بالإضافة إلى قضايا السياسات  والعنف الطائفي ، وتوافر الخدمات العامة والرعاية الاجتماعية، واستنكار سوء الإدارة وإدانة الفساد السياسي.

تمحور نشاط النساء العراقيات منذ سقوط النظام حول قضيتين رئيسيتين تتعلقان بالتمثيل السياسي للنساء ووضعهن القانوني: تشكيل مجموعات للضغط بشأن نظام المحاصصة وقانون الأحوال الشخصية في ردّ فعل على محاولة تبني قانون للأحوال الشخصية قائم على أساس طائفي. وقد جمعت عميلة تشكيل مجموعات الضغط بشأن مسألة كوتا النساءَ الناشطات السياسيات من مختلف الأطياف السياسية (من اليساريين الليبراليين إلى الإسلاميين المحافظين)؛ بل إن بعض المجموعات اقترحت حصة نسائية بنسبة 40 في المئة في الهيئات التمثيلية بدلًا من 25 في المئة، وهي الحصة االتي جرت المصادقة عليها. وقد عارضت أغلبية المجموعات والشخصيات المستقلة التشكيك بقانون الأحوال الشخصية على أساس طائفي. وقد رأت الناشطات النسويات والمدنيات، أن جميع محاولات تبني قانون أحوال شخصية على أساس طائفي تنتهك القانون الموحّد رقم 188 لعام 1959، مثل المادة 41 من الدستور والقانون الجعفري الأخيرالذي يهدد حقوق النساء على أساس طائفية . وقد أيّدت اغلب النساء الإسلاميات الشيعيات المادة قائلاتٍ إن العراقيين يجب أن يكونوا أحرارًا في اختيار مذهبهم الديني لدى تناولهم الشؤون العائلية والخاصة. وطالبت شبكة النساء العراقيات ومنظمة حرية المرأة في العراق ومنتدى الإعلاميات العراقيات بإلغاء المادة 41 وجميع المقترحات التي تسعى إلى تبني قانون أحوال شخصية قائم على أساس طائفي. وعملوا على إصلاح المواد التمييزية الحالية في قانون الأحوال الشخصية وقانون العقوبات، وخاصة القضايا المتعلقة بالعنف ضد النساء.

وإلى جانب التعبئة وحشد الصفوف بشأن الدستور والحقوق القانونية للنساء، شكّلت ناشطات المجتمع المدني طليعة الحراك بشأن قوانين الرفاه والحماية الاجتماعية، ومكافحة الفساد، والدعوة إلى حرية التعبير، وانتقاد الرواتب الحكومية و”مأسسة الفساد”. شاركت أغلبية الناشطات المستقلات في المجتمع المدني تم إجراء مقابلة معهن في المبادرة المدنية للحفاظ على الدستور التي أُطلقت في عام 2010 لممارسة الضغط على الحكومة، وكذلك في التعبئة وتشكيل مجموعات ضغط لشجب “الإرهاب” والطائفية وعدم كفاءة الدولة في توفير الخدمات العامة الأساسية. واتخذت شبكة النساء العراقيات موقفًا قويًا فيما يتعلق باستقلال العراق عن التدخل الأجنبي، وندّدت بانتهاكات حقوق الإنسان في العراق. كما أثارت الناشطات قضية المفقودين وسجناء حملة مكافحة الإرهاب الذين لا يزالون محتجزين من دون محاكمة، فضلًا عن استخدام قوات الشرطة والأمن للعنف.

وكما أشار زيد العلي (2014: 125-160) وبالتوافق مع الملاحظات الخاصة الوارد في هذا البحث (Ali, 2016, 2017)، لم يشهد العراق في فترة ولاية المالكي الأولى (2006-2010) احتجاج جماهيري نظرًا لانزلاق السكان في أتون الحعنف الطائفي، وكانت معارضة النظام السياسي الجديد معارضة مسلحة. أمّا خلال فترة ولايته الثانية (2010-2014) فقد وصلت موجة الانتفاضات العربية إلى العراق واندلعت الاحتجاجات إذ عُرف 25 شباط/فبراير 2011 بيوم الغضب. وخرج الآلاف إلى الشوارع على الرغم من أن بغداد أُعلنت “منطقة تُمنَع فيها قيادة السيارات”. وقد قتلت قوات الأمن عشرين متظاهرًا، ثمّ وضعت حركة الاحتجاج  تحت ضغط الصدريين مهلة 100 يوم للحكومة ، والصدريين هم أعضاء إحدى أهم الجماعات السياسية الإسلامية الشيعية في البلاد وكانت شاركت مع المتظاهرين. في الآونة الأخيرة، وفي سياق غزو تنظيم الدولة الإسلامية للموصل في حزيران/يونيو 2014، أطلق مواطنون عاديون والمجتمع المدني وناشطات حقوق المرأة حركة احتجاجية شعبية قوية في صيف 2015 (Ali, 2016, 2017). وقد عبرّت هذه الحركة من البصرة وصولا الى ميدان التحرير في بغداد ، عن سخط المواطنين بشكل عام إزاء الفساد وسوء إدارة حكومة ما بعد عام 2003، وخاصة ما يتعلق بالفساد وسوء الإدارة وانقطاع الكهرباء ونقص الخدمات العامة. وسرعان ما تحولت هذه الاحتجاجات إلى حركة شعبية ضخمة – مدعومة حتى من الشخصية الدينية البارزة آية الله السيستاني – تندّد بالنظام العراقي الذي استلم زمام الحكم في إثر الغزو، وتطالب بإصلاحات جذرية. ومنذ ذلك الوقت، بات المتظاهرون يتجمّعون كل يوم جمعة في الساحات العامة الرئيسة للمدن العراقية الكبرى، بما في ذلك النجف والناصرية والبصرة، ويردّدون شعارات زملائهم المتظاهرين في وسط بغداد: “باسم الدين باكونا الحرامية،” “خبز، حرية، دولة مدنية.” ويرى المتظاهرون أن فساد النظام الجديد والسياسة الطائفية هما المسؤولان المباشران عن تشكيل داعش وانتشارها.

انضمت حركة الصدر الإسلامية الشيعية إلى الاحتجاج، وشارك زعيمها مقتدى الصدر في الاعتصام – الذي بدأ في 18 آذار/مارس 2016 – أمام الجدران الإسمنتية التي تسيّج المنطقة الخضراء في العاصمة التي تحتوي على مقر الحكومة المركزية، والسفارات الأجنبية، والقيادة السياسية العراقية الجديدة. وإذا كان العديد من نشطاء المجتمع المدني وحقوق النساء قد انتقدوا انخراط الصدريين في حركة الاحتجاج خشية مصادرتها، فإن آخرين كانوا يؤيدون وجود الصدريين. فقد كانت هناء إدوارمن جمعية الأمل وشخصية البارزة في شبكة النساء العراقيات، متفائلة جدًا بشأن تطورات الاحتجاجات الشعبية. وعبّرت عن وجهات نظر إيجابية بشأن تطور حركة الاحتجاج عندما جرى اللقاء معها في مكاتب الجمعية في الكرادة، وسط بغداد، في اليوم الذي زارت فيه الاعتصام مع وفد من نشطاء الشبكة في 22 آذار/مارس 2016. فعلى الرغم من ثباتها على موقفها الانتقادي إزاء شعبوية الصدريين ونزعتهم المحافظة، ولا سيما فيما يتعلق بالمسائل المتعلقة بالتمييز بين الجنسين، عبّرت إدوار عن دعمها للمحتجين وعن نظرة إيجابية تجاه انخراط الصدريين في الاحتجاج. فهي تعتقد أن حضور مقتدى الصدر دفع القاعدة البروليتارية الشعبية الواسعة للتيار الصدري إلى الشوارع ودعمهم للوحدة الوطنية والمدنية، خاصة في مرحلة تلت أسابيع من الحراك حيث تعب بعض المتظاهرين من التواجد في الشوارع كل يوم جمعة وبدأوا في العودة إلى المنازل. أكد العديد من ناشطات حقوق النساء اللواتي شاركن بفاعلية في حركة الاحتجاج هذه على أهمية ربط الدعوة للمساواة بين الجنسين بالنضال من أجل المساواة الدينية المذهبية والطبقية. وأصرت الناشطات في شبكة النساء العراقيات على أن الحفاظ على المواطنة المتساوية للعراقيين من جميع الخلفيات الإثنية والدينية هو حجر الزاوية في الحفاظ على الحقوق القانونية للمرأة. وفي 12 شباط/ فبراير 2017، هاجم قطّاع طرق موالون للحكومة بالعصي والسكاكين المتظاهرين أثناء مظاهرة نظمتها جماعات المجتمع المدني تحت راية تحالف الإصلاحيين. أسفر الهجوم عن مقتل عشرة أشخاص بينهم شرطي ومئات الجرحى. دعا المتظاهرون إلى إلغاء نظام المحاصصة الطائفية وإدانة الفساد، وإلى إصلاح القانون الانتخابي لكي يشمل الأحزاب غير الطائفية والصغيرة والعلمانية.

خلاصة

اتسم الوضع في العراق منذ ٢٠٠٣ ببروز العنف الطائفي، والفوضى السياسية، وصعود القوى الإسلامية الطائفية المحافظة. تفاقمت التوترات الطائفية وغرق العراق في عنف يفوق الوصف، وكل ذلك بفعل إرساء سلطة الائتلاف المؤقتة لنظام سياسي فئوي إثني مذهبي، ووصول النخبة السياسية المعارضة لحزب البعث إلى السلطة، تلك النخبة التي هيمن عليها القوميون الأكراد والإسلاميون الشيعة المحافظون. وتبنّت سلطة التحالف المؤقتة والنظام الجديد سياسات مختلفة ساهمت في تأجيج الصراعات. وفرضت الدولة الجديدة وطنية متشظّية ومنحت درجات مختلفة من المواطنة وفقًا لتصورها الاثني -الطائفي لتاريخ العراق. فمن خلال عقلية “المظلومية” التي وصفها رشيد (2010) وعلي (2018، 2017) صوّر القوميون الأكراد والإسلاميون الشيعة أنفسهم بشكل أساسي ضحايا للنظام السابق، وجرّموا وهمّشوا أي نوع من الإرث السياسي المرتبط بحزب البعث. وقد أثّر تدمير الدولة بصفتها كيانًا موحّدًا يوفّر الخدمات الاجتماعية والاقتصادية على الحياة الاجتماعية للعراقيين بشكل كبير. وقد أدّى الفساد المستشري في النظام الجديد واللجوء إلى العنف أداة لقمع المعارضة إلى تفاقم العنف الطائفي والسياسي. ونتيجة لذلك، تعمل الناشطات في سياق دولة ضعيفة وغير موثوقة: فهي غير قادرة على توفير الحقوق الأساسية لمواطنيها – مثل الأمن والخدمات الأساسية (الماء والكهرباء والرعاية الصحية) – وفرض دولة القانون. وقد أثرّ المناخ العام لانعدام الأمن والأزمة السياسية، إلى جانب القوى المتنافسة من الميليشيات المتشددة في الشوارع والأحزاب المحافظة في السلطة، على الحياة اليومية للنساء ورسم الحدود والإمكانيات المتاحة للدفاع عن حقوق النساء.

تغطي مبادرات النساء وحملاتهن، أكنّ في المجموعات النسائية أو في المنظمات الاجتماعية والإنسانية، طيفًا عريضًا من الأنشطة التي تهدف في المقام الأول إلى التعويض عن (غياب) وظائف الرعاية والضمان الاجتماعي للدولة. ففي مثل هذا السياق، عملت النساء الناشطات ببراغماتية كبيرة فيما يتعلق بالتمويل وإدارة الاحتلال الأميركي والنظام العراقي الجديد. وضمن الأزمة السياسية والطائفية الأوسع، دفع الفساد العام وضعف الدولة العراقية الكثير من الناشطين إلى الاعتماد على التمويل الأجنبي اوالدولي بدلًا من التمويل الحكومي. ولمّا كانت مجموعات النساء وشبكاتهن قد موّلتها الولايات المتحدة والأمم المتحدة والجهات المانحة الأوروبية والدولية، بشكل رئيس، فقد تأثر نشاطها وبرامجها وحملاتها وفاعلياتها وحتى مفردات خطابها بشدة بالدعم المالي الذي تلقّته. وقد تتوافر برامج وحملات وأنشطة مماثلة لدى مختلف المنظمات النسائية، من المنظمات النسوية الليبرالية وصولًا إلى الإسلامية المحافظة. لذلك، وبالعودة إلى مفهوم مولينو عن المصالح العملية الجندرية (1985)، يتبيّن أن المرأة العراقية دخلت الحيّز العام من موقع اجتماعي متميز عن الرجل؛ موقع وجّهه التقسيم الجنسي والجندري للعمل. ونشأت المصالح العملية للنساء العراقيات من شروط الحياة الملموسة ومثلت استجابة لحاجة فورية: الأمن والرعاية الصحية والفقر والأزمة في النظام التعليمي ومختلف أشكال العوائق والقيود الاجتماعية مثل النزعة الدينية المحافظة. ومع ذلك، وكما هو مبين بوضوح في هذا المقال، فقد دفعت الدولة الجديدة الإثنية-الطائفية والفاسدة والفاشلة في أداء وظائفها، الناشطات السياسيات إلى الاعتماد على أموال المنظمات الدولية. ونتيجة لذلك، وضعت برامجُ المنظمات غير الحكومية والأمم المتحدة جدول أعمالهن وخطابهن وفقًا للأفكار النيوليبرالية عن “تمكين” النساء و”تفويضهن”. وهذا يعني أن مصالحهن العملية تتشابك مع جداول الأعمال العالمية، وتنفصل عن واقعهن الملموس، ولكنها تتيح لهن المجال التواجد سياسيًا. إن النساء العراقيات عالقات، بحسب كلمات كانديوتي، بين “المطرقة والسندان”: “يجب أن يكافحن من أجل حقوقهن الشرعية الرسمية التي تتعرض لتهديد مستمر من القوى الاجتماعية المحافظة، وكذلك من أجل حقوقهن الأساسية في الأمن والكرامة الإنسانية التي باتت ضحية استشراء غياب القانون والإفلات من العقاب في مجتمعاتهن”(2007).

ومن الواضح أن فرض نهج المنظمات غير الحكومية وتجانس الأنشطة يشكّلان سمة مهمة لنشاط المرأة في العراق منذ عام 2003، وذلك على غرار العديد من بلدان المنطقة – مثل مصر والأردن وفلسطين. وقد جرى تنفيذ حملات تسعى لتعميم الوعي بالديمقراطية وحقوق الإنسان ومراعاة منظور الجندر وشملت كامل المجتمع المدني، والأطياف السياسية كلها أيضًا. وعملت جميع الناشطات العراقيات على مبادرات مماثلة: تعميم الوعي والتثقيف بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان ومنظور الجندر، بالاستناد إلى مرجعيات مثل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) وقرار مجلس الأمن 1325، وشمل أيضًا التدريب على تعميم مراعاة منظور الجندر، والمهارات الإعلامية والتنظيمية والقيادية.

على هذا النحو، تميز نشاط النسويات العراقيات بعد عام 2003 بالبراغماتية في علاقاتهن بسياق سياسي اتسم بالاحتلال والعنف الطائفي وفرض نهج المنظمات غير الحكومية، وحدود ضبابية بين مجتمع مدني ومؤسسات حزبية أو حكومية. ففي هذه الحالة من الأزمة السياسية، أصبحت الناشطات يشاركن سياسيًا بـصفتهن “نساء” في المقام الأول، باعتبار أن الشروط السياسية التي وضعها الاحتلال بقيادة الولايات المتحدة والنخبة السياسية الجديدة شدّدت على “تمكين المرأة ومشاركتها السياسية” ضمن الخطاب السائد بشأن الديمقراطية.

ومع ذلك، نجحت مجموعات وشخصيات نسوية مستقلة في تطوير عملهن على المستوى الشعبي والمشاركة في تعبئة صفوف المجتمع المدني بعيدًا عن الطائفية، ما شكّل ضغطًا على الحكومة العراقية للقيام بإجراءات تشمل الرفاه والدعم الاجتماعي ومكافحة الفساد. ولا شك أن عمل المجموعات والشبكات النسائية المستقلة وغير المنتمية حزبيًا، متزامنة مع المعارضة المتنامية للنظام الجديد من خلال حركة الاحتجاجات الشعبية، يشكّك في الطبيعة الإثنية-الطائفية والفاسدة للنظام السياسي ما بعد 2003. وإن مشاركة النساء الناشطات في حركات الاحتجاج أمر بالغ الأهمية في سياقٍ تستخدم فيه الحكومة العراقية سردية “الحرب على الإرهاب” كي تقمع بعنف أي نوع من النشاط السياسي الراديكالي على مستوى القواعد الشعبية.

References

Abdelrahman, Maha (2007), NGOs and the Dynamics of the Egyptian Labour Market, in Development in Practice 17(1): 78-84.

Abdul-Hadi, Rabab (1998) Palestinian women’s autonomous movement: Emergence, dynamics and challenges, Gender and Society 12(6): 649-673.

Al-Ali, Nadje (2007), Iraqi Women. Untold Stories from 1948 to the Present. London/New York: Zed Books.

Al-Ali, Nadje & Pratt Nicola (2009), What kind of liberation? Women and the occupation of Iraq. University of California Press.

Al-Ali, Zaid (2014), The Struggle for Iraq’s Future. How Corruption, Incompetence and Sectarianism have undermined Democracy. New Haven and London: Yale University Press.

Al Rachid, Loulouwa (2010), L’Irak de l’embargo à l’occupation : dépérissement d’un ordre politique (1990-2003), Thèse de doctorat en Science politique. Monde musulman, soutenue en 2010.

Ali, Zahra (2018), Women and Gender in Iraq: between Nation-Building and Fragmentation. Cambridge University Press.

(2017), The Fragmentation of Gender in Post-Invasion Iraq, The Oxford Handbook

of Contemporary Middle-Eastern and North African History, (eds.) Amal Ghazal and Jens

Hanssen, Oxford Handbooks Online.

(2016), Young Grassroots Activism on the Rise in Iraq: Voices from Baghdad and Najaf, Open Democracy, 5th of May.

(2013), Le mouvement des femmes de l’Irak post-Saddam, L’Homme et la société, Sexe

et Politique, n°189-190 (February) : 223-243.

(2013), Le mouvement des femmes dans l’Irak post-Saddam : entre Genre, Nation et

Religion. Héritages passés et défis présents. Femminismi nel Mediterraneo, (eds) Leila El Houssi and Lucia Sorbera, Genesis, XII / 1: 71-99.

Arato, Andrew (2009), Constitution Making Under Occupation. The Politics of Imposed Revolution in Iraq. New York, Chichester: Columbia University Press.

Barakat, Sultan (2005), Post-Saddam Iraq: deconstructing a regime, reconstructing a nation. Third World Quarterly, Vol. 26, No. 4– : 571 – 591.

Barakat, Sultan & Wardell, Gareth (2002), Exploited by Whom? An Alternative Perspective on Humanitarian Assistance to Afghan Women, Third World Quarterly, Vol. 23, No. 5, Reconstructing War-Torn Societies: Afghanistan (October): 909-930.

Dodge, Toby (2013), Iraq – from war to a new authoritarianism Adelphi series. Routledge Taylor & francis group, London, UK.

(2005), Iraq’s future: the aftermath of regime change. Adelphi Papers, 372. Routledge for the International Institute for Strategic Studies, Abingdon, UK

(2003), Inventing Iraq: the failure of nation building and a history denied. New York: Columbia University Press.

Damaluji, Mona (2010), Securing democracy in Iraq: Sectarian politics and segregation in Baghdad, 2003-2007. T D S R. Vol. 21 (2): 71-87.

Dawisha, Adeed (2009), Iraq: A political history from independence to occupation. Princeton, New Jersey: Princeton.

Droz-Vincent, Philipe (2008), Où sont donc les « sociétés civiles » au Moyen-Orient ? Humanitaire, 20 | Automne/hiver.

Farouk-Sluglett, Marion (1993), Liberation or Repression? Pan-Arab Nationalism ant the Women’s Movement in Iraq. In Power and Society (eds.) D. Hopwood, H. Ishow, T. Koszinowski, Ithaca Press, St. Antony’s College, Oxford.

Greenberg, Marcia E. & Zuckerman, Elaine (2006), The gender dimensions of post-conflict reconstruction: the challenges in development aid, Research paper no. 2006/62 UNU-WIDER.

Haddad, Fanar. 2014 A Sectarian Awakening: Reinventing Sunni Identity in Iraq After 2003, Current Trends in Islamist Ideology. Aug2014, Vol. 14: 70.

(2010), Sectarian Relations in Arab Iraq: Competing Mythologies of History, People and State, Thesis submitted to the University of Exeter as a thesis for the degree of Doctor of Philosophy by Research in Arab and Islamic Studies, March 2010.

Hasso, Frances S (2005), Resistance, Repression, and Gender Politics in Occupied Palestine and Jordan. Syracuse University Press.

Ismael, Tareq Y. and Ismael, Jacqueline S. (2015), Iraq in the Twenty-First Century. Regime Change and the Making of a Failed State (London & New York: Routledge).

Ismael, Jacqueline S. and Ismael Shereen T. Ismael, J. S. and Ismael, S.T. (2007), ‘Iraqi women under occupation: from tribalism to neo-feudalism’, International Journal of Contemporary Iraqi Studies 1: 2, pp. 247–268.

(2000). “Gender and State in Iraq,” in Suad Joseph (ed.) Gender and Citizenship in the Middle East (Syracuse, NY: Syracuse University Press) pp. 185–213.

Jad, Islah (2007), NGOs: Between Buzzwords and Social Movements; Development in Practice, Vol. 17, No. 4/5 (Aug. 2007), pp. 622-629.

(2003), The NGO-isation of Arab Women’s Movements; IDS Bulletin Volume 35, Issue 4, pages 34–42, October 2004.

Kamp, Martina (2009), Fragmented Citizenship: Communalism, Ethnicity and Gender in Iraq, in (eds.) Al-Ali Nadje & Pratt Nicola, Women and War in the Middle East: transnational perspectives, London: Zed books.

Kandiyoti, Deniz (2007), Between the Hammer and the Anvil: Post-conflict reconstruction, Islam and Women’s Rights, Third World Quarterly, 28 (3): 503–517.

(2007), Old Dilemmas or New Challenges? The Politics of Gender and Reconstruction in Afghanistan. Development and Change, 38 (2). pp. 169-199.

Khattak, Saba Gul (2002), Afghan Women: Bombed to Be Liberated? Middle East Report, No. 222 (Spring): 18-23.

Metcalfe, Dawn Beverly (2008), Women, Management and Globalization in the Middle East, Journal of Business Ethics, Vol. 83, No. 1, Women, Globalisation and Global Management (November): 85-100.

Molyneux, Maxine (1985), Mobilization without Emancipation? Women’s Interests, the State, and Revolution in Nicaragua, Feminist Studies, Vol. 11, No. 2 (Summer, 1985): 227-254.

Norton Augustus Richard (1993), The Future of Civil Society in the Middle East, Middle East Journal, Vol. 47, No. 2 (Spring): 205-216.

Pieri, Caecilia (2014), Can T-Wall Murals Really Beautify the Fragmented Baghdad, Jadaliyya, 18 mai 2014, http://www.jadaliyya.com/pages/index/17704/can-t-wall-murals-really-beautify-the-fragmented-b.

Pietrobelli, Marta (2013), Institutionalizing Gender: Women’s Political Participation in Jordan, Thesis submitted for the degree of PhD in Gender Studies at the Centre for Gender Studies at SOAS.

Rehn, Elisabeth & Johnson Sirleaf, Elaine (2002), Women, War and Peace: The Independent Experts’ Assessment on the Impact of Armed Conflict on Women and Women’s Role in Peace-building, New York: UNIFEM.

Richter-Devroe, Sophie (2009), Here, it’s not about conflict resolution – we can only resist”: Palestinian women’s activism in conflict-resolution and non-violent resistance, Women & war in the Middle East, in (eds.) Nadje Al-Ali & Nicola Pratt, London & New York: Zed Books.

(2008), Gender, Culture, and Conflict Resolution in Palestine, Journal of Middle East Women’s Studies, Vol. 4, No. 2 (Spring): 30-59.

UNDP (2001), Gender Approaches in Conflict and Post-Conflict Situations, Rome.

 

لتحميل الملف كاملاً اضغط هنا

 

المصدر https://omran.dohainstitute.org/ar/Issue25/Pages/art1.aspx

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى